الاقتصاديون -قديماً- هم أناس لم يدرسوا علم الاقتصاد كما ندرسه اليوم، لم يصعدوا إلى منابر العلم والسياسة “التي من المفترض أن تكون كذلك” لكي يناقشوا بعض الهُراء الاقتصادي بغرض التلذذ بالتصفيق الحار من القطيع.
بل وضعوا اقتصادهم ونظرياتهم من وحي خبرات حقيقية صعدت بأممهم من التخلف إلى النمو، وسار على نهجهم العالم أجمع أملاً في تحقيق نمو مشابه.
وُضع علم الاقتصاد في الأساس للذهاب بالشعوب من أدنى درجات التخلف إلى أعلى درجات النمو والتقدم، ويلحق الاقتصاد هذا النمو بتنظيم عملياته إلى مالا نهاية، فإن وجدت أمة مازالت تعيش التخلف والجهل والظلام فاعلم أنها تمتلك مُتسلقين وليسوا اقتصاديين.
إذا نظرنا في عُمق علم الاقتصاد سنجد أسباب وحلول التخلّف واضحة وتحتاج فقط لمن يطبقها حرفياً، وهو دليل قاطع على رغبة الحكومات في إبقاء تخلّف شعوبها، فإن كانوا كذلك فهي كارثة، وإن لم يكونوا على دراية بالاقتصاد فالكارثة أكبر.. فكيف يرى الاقتصاديون التخلّف؟
فريق يراه..
كحلقة مُفرغة
هناك مجموعة من القوى أو العوامل ترتبط مع بعضها بطريقة دائرية من شأنها إبقاء الدولة المُتخلفة في تخلف مستمر، هذه العوامل تتلخص في الحلقة الرئيسية للفقر والتخلف وهي كالتالي:
انخفاض دخل الفرد يؤدي إلى انخفاض مستوى النقدية، الذي يؤدي بدوره إلى انخفاض المستوى الصحي للفرد، الذي يؤثر على انخفاض مستوى الكفاءة الإنتاجية مما يؤدي إلى انخفاض مستوى الدخل ومن هنا يلتحم طرفا الحلقة، وتعيش الدول المتخلفة في هذه الحلقة لا تستطيع الخروج منها.
أما عن أسباب وجود هذه الحلقة من الأساس هي عدم اهتمام الحكومات بالأفراد وانتشالهم من خارج هذه الحلقة المُفرغة..
قد تكون نظرية الحلقة المفرغة منطقية وصحيحة ولكن عاب بعض الاقتصاديون عليها لبعض الأسباب:
#تتناول نظرية الحلقة المفرغة التخلف ظاهرياً فقط، ولا تهتم بتاريخه ولماذا نشأ من الأساس، وبالتالي تعجز عن الرجوع لأصل ظاهرة التخلف لمعالجتها من جذورها.
#انخفاض الدخل والادخار ليس من أسباب التخلف من الأساس، ولكن هم فقط مظاهر وسمات، أو إن جاز التعبير نتائج التخلف، ولكن مشكلة التخلف أكبر من ذلك، فهي ذات أبعاد اقتصادية، اجتماعية، وسياسية متعددة ولا يمكن تلخيصها فقط في الحلقة المفرغة.
#منهجية الحلقة المفرغة هي بذاتها فارغة تماماً من المعنى، فخصائص التخلف المذكورة سابقاً ماهي إلا جانب واحد من جوانب الفقر والتخلف المتعددة التي تنشأ من أسباب سياسية واجتماعية أخرى.
في النهاية اتفق الاقتصاديون أن نظرية الحلقة المفرغة تناقش فقط مظاهر التخلف وليس لها أدنى علاقة بتفسير نشأته والأهم تفسير لماذا يستمر حتى الآن!
ومن هنا جاء دور..
روستـو ومراحل النمو
تقوم نظرية مراحل النمو على أن الاقتصاد القومي يسير في طريق شاق، يقطع مرحلة تلو الأخرى متخطياً الصعاب والعقبات حتى يصل إلى أعلى درجات النمو الاقتصادي، حيث خرج لنا الاقتصادي الأمريكي والت روستو بخمس مراحل تذهب بالأمة من التخلف إلى النمو في محاولة منه لتفسير التخلف وتحقيق التنمية وهي كالتالي:
1- مرحلة المجتمع التقليدي
المجتمع التقليدي هو المجتمع الذي يمتلك إطار محدود من الإنتاج، حيث يستخدم تكنولوجيا بدائية الصنع ووسائل إنتاج بدائية وتقليدية تماماً بدون أي تطوير.
يقول روستو أن هذا المجتمع تلعب به العلاقات الأسرية والعصبية دوراً هاماً في تنظيمه فهم يسيرون على نفس النهج دون تطور خوفاً من المجهول، وهذا المجتمع “من الناحية التاريخية” هونفس المجتمع الذي ساد عصر ماقبل نيوتن الذي انتشر به العلوم والتكنولوجيا الحديثة.
2- مرحلة ماقبل الانطلاق
وهي مرحلة يمر بها المجتمع التقليدي تتميز بوجود ظروف اقتصادية واجتماعية تهيئ المجتمع نحو الانتقال، أو تتميز بوجود مقومات هذا الانتقال، وتتم من خلال إتاحة فرص أفضل للتعليم واستغلال سبل العلم الحديث، بالإضافة إلى بداية تحقيق التعبئة للموارد الطبيعية والمادية وظهور قوة المؤسسات المالية والمصرفية.
3- مرحلة الانطلاق
يقدّس روستو هذه المرحلة لأنها الأهم، حيث تبدأ بها الظروف الاجتماعية والاقتصادية بالتغير وتتبعها عمليات من النمو المتلاحق، مثل زيادة معدل الاستثمار بنسبة 15% على الأقل من إجمالي الدخل القومي، وتحقيق تطور وتقدم في قطاع رئيسي من قطاعات الدولة الذي يؤثر بدوره على بقية القطاعات كالتعليم أو الصحة..
بالإضافة إلى وجود القيادة السياسية الملائمة التي تعمل على تعزيز هذا التقدم والتطور.
4- مرحلة النضج
وهي المرحلة التي تتبع مرحلة النمو عند روستو، وبها تعيش الدولة بفترة طويلة من التقدم الملحوظ، ويتجه الاقتصاد القومي في هذه الفترة الى نشر التقنيات الحديثة في جميع قطاعات الدولة، بالإضافة الى استمرار زيادة معدل الاستثمار والذي يحقق بدوره ناتجاً يفوق عدد السكان بمراحل.
بالإضافة إلى انخفاض معدلات الاستيراد وزيادة معدلات الصناعات المحلية بل والبدء في تصدير الفائض.
5- مرحلة الاستهلاك الكبير
في هذه المرحلة تصبح الدولة قادرة بجميع قطاعاتها على إنتاج السلع الاستهلاكية المُعمرة بنفسها وبكميات كبيرة على مستوى متطور، وعندما يدخل الفرد في هذه المرحلة يرتفع مستوى الدخل الحقيقي بما يزيد عن حاجاته الأساسية.
بالإضافة إلى زيادة الأعمال التي تتطلب مهارات متقدمة الذي يقدمها بدوره قطاع التعليم المتقدم، بالإضافة الي التمتع بشبكة عالية الجودة من المرافق والخدمات الصحية والتعليمية والثقافية والترفيهية .. حيث هناك بعض الدول حالياً تعيش بهذه المرحلة بالفعل وعلى رأسها الولايات المتحدة ودور غرب أوروبا.
#على الرغم من أن نظرية مراحل النمو لروستو تقدم الحل والعلاج للدول المتخلفة للخروج من تخلفها، إلا أن بعض الاقتصاديين أخذوا على روستو أنه لم يتطرق إلى تفسير أسباب التخلف أيضاً من جذوره لكي يكون العلاج صحيحاً وسليماً، فربما..
نحتاج إلى دفعة قوية.. من رودن
في هذه النظرية يقف الاقتصادي روزنشين رودن في وجه نظرية روستو، فنظرية الدفعة القوية ضد التدرج في التنمية الاقتصادية كما هو الحال في نظرية مراحل النمو، ولكن يؤمن رودان أن السبيل الوحيد للتغلب على هذا الركود الاقتصادي ومواجهة التخلف هو دفعة قوية واحدة في جميع المجالات والقطاعات.
وبرر رودان أن الدفعة القوية هي شرط أساسي لنجاح التنمية الاقتصادية بأن التنمية غير قابلة للتجزئة على مراحل، لأن ظاهرة الانفجار السكاني تسود بشكل ضخم على الدول المتخلفة مما تعيق مراحل التنمية خاصة أنها تحتاج لعقود من الزمن.
#اعتبر الكثيرون أن نظرية الدفعة القوية من أهم نظريات التنمية الاقتصادية، بسبب قوتها وسرعتها في تحقيق النمو، ولكن عاب عليها البعض الآخر أن تحقيق هذه النظرية تحتاج إلى تدخل أجنبي هائل لضخ هذه الكمية من رؤوس الأموال اللازمة للدفعة، مما يتعارض مع فلسفة الحرية الاقتصادية!
فهل من الممكن قبول تدخل مالي أجنبي بهذه الكمية لتحقيق الدفعة القوية في بلادنا؟! دعونا إذن نرى..
شومبيتـر يُنظم..
بعيداً عن مراحل النمو والدفعة القوية، يؤمن الاقتصادي الأمريكي جوزيف شومبيتر أن الحل يكمن في النظام الرأسمالي، والرأسمالية هي أن تكون وسائل الإنتاج مملوكة ملكية خاصة أو لشركات، حيث يكون الإنتاج والتوزيع وتحديد الأسعار محكوم بالسوق الحر والعرض والطلب، ويحق للأفراد المُلّاك الاحتفاظ بالأرباح وإعادة استثمارها .. اقرأ أكثر عن الرأسمالية
فيتفق شومبيتر مع رودان في أن نظرية مراحل النمو غير مقبولة، بل يقول أن التنمية الاقتصادية تعتمد على عنصرين أساسيين هما المنظم والائتمان المصرفي:
فالمنظم: عبارة عن أساليب جديدة في عملية التنمية عن طريق فتح أسواق جديدة، وإعادة تنظيم صناعة ما، بالإضافة إلى استخدام طرق ووسائل جديدة في الإنتاج من قِبل الأشخاص والشركات.
والائتمان المصرفي: عبارة عن التسهيلات التي يعطيها الجهاز المصرفي للمنظم (الأفراد والمُلّاك) لخلق قوة فعّالة ليقوم بإنتاج جديد.
فبين حلقة مفرغة، ومراحل للنمو، ودفعة قوية، وربما احتياجنا للرأسمالية بغرض التنمية الاقتصادية..
هل من مخرج حقيقي لنا؟!
قد تتفق مع جميع نظريات التنمية الاقتصادية السابقة، فكل منها لم يخرج من وحي خيال كاتبها، ولكنها اعتمدت على نماذج حقيقية، ولكن أي من هذه النظريات نحتاج بالفعل للخروج من “عنق الزجاجة” كما يقول المحللون السياسيون
نحن نعيش في الحلقة المفرغة حرفياً.. دخل متدني، انخفاض في مستوى النقدية، وبدوره تدهور الحالة الصحية التي تجعله غير قادر على العمل لتحقيق دخل أعلى.
هل نعيش في أي من مراحل النمو بالفعل؟ أم مازلنا غير مهيئين للدخول في هذه المراحل؟ بالطبع يختلف الأمر من دولة عربية لأخرى ولكنها تُطبق على الجميع، ربما نحتاج إلى دفعة قوية؟ لا أعتقد أن الأمر يتحمل دخولاً مالياً أجنبياً في أي دولة في هذه الفترة تحديداً.. إذن فالحل في الرأسمالية؟ ولكن هل نطبقها بمفهومها الحقيقي بالفعل؟
بعد قراءة هذا التقرير وبعد سنوات من عذاب الثورات العربية، أستطيع أن أجزم أن المخرج الحقيقي لنا هو ظهور “علماء ثوريين” يقودون الأمة نحو التنمية الاقتصادية، وليست ثورات تطيح بأنظمة سياسية مُضللة لتأتي بأخرى أشد ضلالاً..
ربما نحتاج إلى أمثال روستو ورودان مرة أخرى، ربما نحتاج إلى آدم سميث جديد ليقود ثورة الاقتصاد السياسي مرة أخرى في بلادنا، قد نحتاج إلى ماركس مرة أخرى لبث القوة في روح العمال، نحتاج إلى ثورات فريدمان، ريكاردو، وكينز لانتشال الأمة من هذا المُستنقع.
فأتمنى أن تكون الثورة القادمة ثورة علمية، اقتصادية، وصناعية..