منذ فترة أشاهد العديد من المنشورات على فيسبوك ﻷشخاص يظهرون في صور مع فقراء مشردين قد ضاقت بهم السبل أو ابتلاهم الله بنقص في الأموال والأنفس والثمرات، ويذكرون أنهم وجدوا ذلك الطفل أو الرجل أو الفتاة ..إلخ في حالة مزرية وأن أمره كذا وكذا، .. وأنه قد جلس إليه يحدثه ويعرف أخباره ليعرف حالته، ثم يختم بأنه قد ساعده أو يذكر الأمر فقط لربما يستطيع أحد مساعدته.
إلى هنا لم أكن أرَ بأساً في الأمر، فنشر الخير يدفع الناس إلى التنافس بينهم في فعله، ويحضهم عليه، وكنت أقول في نفسي جزى الله خيراً من بدأ ذلك الفعل! إلى أن بدأ الأمر يأخذ منحنىً آخر!
بدأت أرى صيغة الكلام في تلك المنشورات يتغير ليصبح على قالب آخر، ويجعلك تفهم من طريقة سرد الكلام أن صاحب المنشور أمير أو رجل أعمال أو نحو ذلك، وقد مر في طريق عودته ﻷحد قصوره بفقير معدم ﻻ يجد مأكلاً وﻻ مشرب، وقد تصدق عليه وتأثر بحالته كثيراً، وهو ينشر ذلك الكلام لأصحابه من باب التباهي برقة قلبه الرحيم بمن هم أقل منه حظاً في الدنيا!
متاجرة بأحوال الناس
تلك الطريقة في رأيي ما هي إﻻ متاجرة رخيصة بأحوال الناس لمجرد تسجيل إعجابات ومتابعات على الشبكات الاجتماعية. بالطبع فإنني ﻻ أتهم كل الناس وﻻ أحكم عليهم بالرياء وطلب الشهرة الزائفة، لكن هناك طائفة بعينها تستطيع تمييزها من منشوراتها تلك تبتغي بذكر الأمر جمع معجبين على حساباتهم للتباهي بها!
ولعل ذلك يؤذي الفقير الذي تصوره! فإنه بشر مثلك يحس ويشعر ويفرح ويحزن وينكسر قلبه أيضاً! قل لي بربك كيف يكون حالك حينما يأتي أحدهم ليصورك في حالتك المزرية تلك من البلاء ويعرض صورك على الناس بذكر حالتك من باب الشفقة والمن أنه قدم لك يداً؟!
الأمر مهين على الناحية النفسية، حتى وإن لم يظهر الفقير ذلك في تلك الصور البائسة التي تصوره إياها! إن ذلك يذكرني ببيت في قصيدة فلسطينية لتميم البرغوثي يقول فيه:
وﻻ أصعب من مصيبة على الزين .. سوى إنه أمام الناس يشكيها!
أعرف بعض الفقراء الذي ﻻ يقبلون تبرعات مادية أصلاً، فضلاً أن يدعون أحداً ما يصورهم ليتاجر بحالتهم! فإنني أذكر قصة فتاة كانت ترفض من يقدم لها مالاً يزيد عن قيمة السلعة التي تبيعها، وهي ناضجة كفاية على صغر سنها لتخبره في حزمٍ أنها لا تتسول، وإنما هي تعين أمها المريضة!
الطرق المثلى لمساعدتهم
الطريقة التي أفضل مساعدتهم بها في نظري ألا أشعرهم حتى بفضلي في مساعدتهم، وإنما أجعلهم يظنون أنهم أخذوا حقاً من حقوقهم علينا “وهو كذلك بالفعل”. وتحضرني الآن قصة من التاريخ لأبي حنيفة وهو العالم المسلم الذي برع في الفقه الإسلامي، لامرأة فقيرة أتته تشتري ثوباً وقد كان تاجراً، فعرض لها ثوباً حسبت المرأة في نفسها أنه سيطلب منها ثمناً غالياً فيه، فسألته بكم؟ فقال لها هو بدرهم!
ولكي يحفظ لها ماء وجهها بعد استنكارها للثمن البخس في السلعة الغالية، أخبرها أنه اشترى ثوبين بعشرين درهما، باع أحدهما بتسعة عشرة، وبقى هذا الثوب!، فثمنه درهم!. وهكذا عادت به المرأة مرفوعة الرأس وقد اشترت بمالها ولم يمن عليها أحد بشيء!
مبدأ هذه الطريقة إن اتبعها المرء فيما يعطيه للفقير أو المبتلى نبيل جداً، ومهم لئلا تنكسر نفس الفقير، بل هو مهم لئلا تصيبك أنت خصلة الكِبر وترى نفسك أفضل منه!!
نشر الخير
لا أقول بهذا أنك لا ينبغي أن تنشر ما فعلت من خير ليتبعك في ذلك غيرك، فالناس أحياناً ينتظرون من يأخذ الخطوة الأولى ليحذوا حذوه بعدها ويفعلوا مثله، لكن رجاءً انشرها بأسلوب مهذب يحفظ ماء وجه الفقير، ولا تستأذنه في التصوير معه أو تصويره هو شخصياً، لا تشعره أنه كائن أحفوري وجدته قدراً أثناء استكشافك للمريخ!
برأيي لا تصوره إلا إذا كانت الحالة تستدعي التصوير، فمثلاً إذا كنت تدعو لجمع تبرعات أو لمساعدة شخص بعينه يحتاج أكثر من مساعدتك، فحينها يكون أخذ بيانات ذلك الشخص واجباً لكي يستطيع الكل مساعدته، بل لكي تصل قضيته إلى بعض المسؤولين فيتحركوا له! أما إذا كفيته أنت ولم يعد محتاجاً لأحد أو لم تكن حالته بالخطورة التي تستدعي نفيراً عاجلاً لمساعدته فلا حاجة لتصويره.
الخلاصة
أكتب هذا المقال لكي أنبه القارئ الكريم لخطأ يحدث أمامه كل يوم، ولعله ينساق خلفه يوماً ما، وإنني أدعوه إلى أن يجتنب ذلك مع الفقراء والمشردين وأصحاب الابتلاءات ما استطاع ليحفظ كرامتهم..
وفي نفس الوقت فإنني لا أريد أن يُفهم المقال على أنه دعوة لمنع تلك المنشورات ومنع التبليغ عن أصحاب البلاء لمساعدتهم، بل إنني أدعو لذلك في الحقيقة! ولكن فقط إذا كان ذلك بطريقة تحفظ كرامتهم.
شيء آخر رأيت أنه يجب علي ذكره، لم أشأ في تلك المقالة أن آتي بصور من منشورات أولئك الذين أقصدهم وإن كان الأمر فيه فائدة كي تستطيعوا تمييز تلك العينة من الناس، غير أن الأمر به مس بكرامة الفقير الذي في الصورة أيضاً، ولقد رأيت ألا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه وأنشر صورته مرة أخرى!